مقالات

غزة.. الخالدون

بقلم الشيخ محمد الناوي

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)

على مرّ التاريخ وامتداد الجغرافيا، شهدنا حركات تحرّر من الاستعمار، وهذه الحركات تشترك جميعها في كونها كانت الأضعف تسليحًا في مقابل قوة المحتل. لم يكن هناك مايُصطلح عليه بـ “توازن القوى” بين المقاومة والمحتل، ومع ذلك استطاعت معظم حركات المقاومة أن تحرر أوطانها بعد تضحيات كبيرة.

ولم نسمع يومًا من يقول إن تلك الحركات جلبت الويلات على شعوبها نتيجة مواجهتها للمحتل، بل على العكس، يسجّل التاريخ الخلود لأسماء قادة المقاومة، وللشعوب التي انتفضت وقدّمت آلاف الشهداء من أجل الاستقلال.

ففي مقابل معادلة “توازن القوى” المفقودة آنذاك، كان هناك “مبدأ الرجولة” و”مبدأ الثبات على الحق”، الذي يمدّ أصحابه بقوة معنوية تجعلهم ينتصرون على غطرسة الأعداء، ويسقطون معادلة “توازن القوى”.

لم نسمع يومًا من يتّهم الأمير عبد القادر الجزائري، الذي واجه فرنسا وضحّى معه الشعب بمليون شهيد، بأنه أخطأ في قرار المواجهة، وكذلك الحال مع الشيخ عمر المختار في ليبيا، والدغباجي وبن غذاهم في تونس، وحتى تنكو عمر وتشوت موتيا في إندونيسيا، الذين قادوا حركة التحرّر ضد الاستعمار الهولندي الذي استمر لأكثر من ثلاثة قرون.

وكذلك كل رجالات فلسطين من عهد الانتداب البريطاني إلى قيام دولة الكيان، من الشيخ عز الدين القسام إلى الشيخ أحمد ياسين، والرنتيسي، وهنية، والسنوار.

وفي لبنان، من الشهيد عباس الموسوي إلى عماد مغنية، وصولًا إلى السيد حسن نصر الله… بل على العكس، نجد أن التاريخ قد ثبّت أسماءهم كقادة كبار حرروا أوطانهم وأعزّوا شعوبهم، فحقّ لهم أن تُكتب أسماؤهم في سجل “الخالدين”.

ومن هنا، فإن ما نسمعه من أصوات شاذة تلقي باللوم على حركات المقاومة، وتدعو لنزع سلاحها، وتتهمها بأنها سبب المأساة التي لحقت بغزة، هو كلام يكذّبه المنطق والتاريخ. بل على العكس، فإن المقاومة قانون ثابت حتى في عالم الفيزياء من خلال معادلة: “لكل فعل رد فعل”، والتي تنطبق حتى على الجمادات التي تفتقر إلى الإرادة والإحساس. فكيف ننفي هذا المبدأ عن الإنسان، وهو المخلوق العاقل الممتلئ بالأحاسيس والانفعالات في مواجهة عدو مجرم ينكّل به على مرأى العالم؟

إن ما عجز العدو عن انتزاعه في الميدان، لن يناله بالمفاوضات. وإن خطّ ابن سلول من المتخاذلين والخونة، لن ينال من عزيمة رجال الله. وإن السلاح الذي مدّته يد الله للمجاهدين الشرفاء، لن يُنتزع منهم إلا بعد أن تُنتزع أرواحهم.

إن إطالة أمد الحرب، وعلى قساوتها، تجعل من غزة الحُجّة البالغة على كل المتخاذلين، وتكشف بالكامل حجم إجرام النظام الدولي، فتُسقط شرعيته القانونية والأخلاقية، وتُسقط زيفه. فقد وصلنا إلى مرحلة خسر فيها العدو كل شيء أمام العالم، ولم يعد للضحية ما تخسره بعد أن قدمت كل ما تملك. ولم يتبقَّ للشرفاء في هذا العالم أي شك في تحديد من هو الجلاد ومن هو الضحية في هذه المواجهة.

والسؤال هو: هل أن خيوط القدر بصدد رسم مسارات جديدة للعالم نحو كنس كل القاذورات وتحقيق العدالة المنشودة للإنسانية جمعاء؟ أم أننا لا نزال في مرحلة تمحيص واختبار طويل؟

إننا ندرك يقينًا أن النصر آتٍ، وهو نصر استثنائي بكل المعايير. لكنه يتطلب صبرًا تنوء بحمله العُصبة أولي القوة، صبرًا كصبر يعقوب عليه السلام، الذي لا يشكو بثّه وحزنه إلا إلى ربه. ويتطلب يقينًا بقدرة الله، التي لم تنسَ أهل الكهف رغم مكثهم الطويل: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ (الكهف: 21).

ومع الفقد لأغلى ما نملك من أحبة، نتمنى على الله أن يعوّض للمكلومين، كما عوّض لأيوب عليه السلام: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 84).

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى