مقالات

غزة.. إذا الشعب يومًا أراد الحياة

بقلم الشيخ محمد الناوي

يقول تعالى: ﴿حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا، فنُجي من نشاء ولايُرد بأسنا عن القوم المجرمين﴾ (يوسف: 110).

هذه الآية الكريمة من كتاب الله، وإن كانت تحكي مشاعر معينة في ظروف خاصة لأنبياء كرام حملوا وحي السماء متسلحين باليقين التام في نصرة الله، فإنها لا تقدح في عصمتهم ولافي يقينهم، بل تُعبّر عن واقع وأوضاع أحاطت بمسيرتهم. وهذه الأوضاع، في كل تفاصيلها وحساباتها الظاهرة، كانت تشير إلى غلبة الباطل. لكن هذه الأحاسيس المقلقة لا ترتبط بالأنبياء في شخصهم، بل تتجاوزهم إلى كل من يحمل لواء الحق في كل زمان ومكان.

تتدحرج الأمور على أرض غزة الشهيدة بشكل خطير جدًا؛ فالعدو يمضي في مساره الإجرامي دون أن يعبأ بعواقب أفعاله الجنونية. وفي المقابل، تتزايد الضغوط عليه أحيانًا من أبناء العالم الحر، بينما يزداد دعمه أحيانًا أخرى، فيما يدفع الغزّاوِيّون أثمانًا لا تُقدّر بثمن، ليبقوا في أرضهم، ويقطعوا نهائيًا مع نكبة ثانية قد تمحو ذكر فلسطين إلى الأبد.

نعم، صاحب الحق يموت شامخًا واقفًا، وهذا ما تعلمته الإنسانية من أهلنا في غزة، التي تُباد عن بكرة أبيها قصفًا وتقتيلًا وتجويعًا. وما يروّجه الإعلام المسموم عن دخول مساعدات إلى القطاع، ليس إلا إبرة في كومة قش، كما صرّح بذلك مفوض الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.

لقد بلغ الإجرام مداه الأقصى، كما بلغت الخيانة والخذلان مستويات لم يسبق للتاريخ أن سجّل مثلها. ويتلاعب الغرب بالكلمات التي تُظهر إدانة للعدو، لكنها في باطنها “نظر وتحقيق”، لامتصاص غضب شعوبهم الحرة، التي انتفضت ضدهم بسبب دعمهم للإجرام الصهيوني.

لم يعد لدى العدو أدنى خطوط حمراء يحترمها، وهو يعمل بدعم معلن ومفضوح من “سارق خزائن المسلمين”، لإجبار سكان غزة على الهجرة، ليبني (السارق بما سرق) منتجعات أحلامه على شواطئها، ويحقق العدو حلمه التلمودي في بسط نفوذه على شعوب المنطقة واستعبادها مليون عام.

لذلك نقول إن “الطوفان” قد جاء في وقت حاسم، كادت فيه الأمة الإسلامية أن تفقد مقومات وجودها؛ فالخذلان الرسمي يتحول علنًا وأمام أعين شعوب المنطقة إلى دعم مباشر للعدو بالمال والبضائع. ووصف هذا التعاون بـ “التطبيع الناعم” يبخسه حقه، بل هو تحالف استراتيجي بين بعض دولنا الإسلامية والعدو، حيث يرى حكام تلك الدول أن التعاون الوثيق مع العدو، وقتل كل نفس مقاومة، هو السبيل الوحيد لبقائهم في سدة الحكم. وهم يؤمنون أشد الإيمان بأن استمرارية ملكهم تكمن في قوة كيان العدو وتمدد جغرافيته.

وفي خضم هذا الواقع الصعب، يبقى أهل غزة أيقونة نضالية، وحصنًا شامخًا يدافع عما تبقى للإنسانية من مصداقية على هذه الأرض، ويظل واجب النصرة معلقًا في ذمة كل مسلم، مهما طالت المعاناة، ومهما تراجع الناصر، وأرجف المرجفون. وفوق كل ذلك، وأمام جبال الحزن التي أثقلت كاهلهم، تبقى نصرة الله لهم متحققة بالقوة، حتى يأتي موعد تفعيلها.

علينا أن نعي جيدًا أن صراعنا مع أعداء الدين والبشرية هو صراع أبدي، وأن المنتصر فيه لن يكون صاحب الحق ما لم يكن صاحب إرادة قوية، وصبر عظيم، واحتساب راسخ. فالعدو يريدنا أن نستسلم، وأن نترك أرضنا، والأخطر من ذلك، أن يزرع فينا اليأس، بعدما نجح في تحييد وكسر بعض جبهات الإسناد، وتوسع جغرافيًا في بلد، وأقفل شريان الإمداد للمقاومين في بلد آخر، ونجح في فتح وتدفق خطوط الإمداد لكيانه من بلدان إسلامية لم تُقدّم رغيفًا لغزة.

لكن الآية الشريفة تُبيّن بوضوح أن النصر لا يأتي في زمن نعيش فيه أريحية، ونُسجّل فيه نقاط انتصار على العدو، بل يأتينا في زمن تنزف فيه جراحاتنا، وتُدكدك فيه عظامنا، وتُدمّر فيه مقومات حياتنا، ويُهدد فيه وجودنا، ويتخطفنا فيه كل عدو، ويخذلنا فيه كل صديق، ونفقد فيه كل أسباب القوة المادية، حتى نبلغ — لا قدّر الله — مرحلة نكون فيها على حافة الانهيار التام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى