الضفةُ دِرعُ القدس
القدس أمرٌ يتجاوز حدود المكان، ولذلك تغدو القدسُ محوراً ورمزاً للصراع مع كل قوى الشرّ التي أرادت أن تفرض سطوتها على هذا الإقليم المميز من العالم؛ فمن يملك القدس يملك المبادرة، ويمسك بيده مفتاح القضية.
في القدس أبعادٌ لهذا الامتداد خارج حدود الجغرافية، هي التي جعلت من القداسة والشرف لازمَين لها، في مقدمتها بُعْدُ الاتصال مع رسالات الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان، وانفتاح السماء على الأرض، بما ينطوي عليه هذا الاتصال والانفتاح من القيمة والاعتبار والأهلية الممنوحة للإنسان، والمتجلية في استعداده للتفاعل مع الوحي الإلهي، وتجليةِ مقاصد هذا الوحي: عملاً في الأرض وإعماراً لها.
وفي القدس بُعْدُ الاتصال المتوازن مع الإنسانية، المتجلي في الوسط الجغرافي الذي يشغله هذا الإقليم، فالقدس إقليمٌ محوره المسجد الأقصى المبارك وليست مدينة فحسب. وقد أتاحت هذه الوسطية المكانية من قارات العالم كلها للقدس أن تكون ملتقى القوافل البشرية عبر التاريخ؛ خاصة وأنّ بوادر المدنية والحضارة الإنسانية قد انبثقت من إقليم القدس، فحقّ لها أن تهوي إليها أفئدة الناس إلى يوم القيامة.
وما دمنا نؤكد على أنّ القدس إقليم يتمحور حول المسجد الأقصى، فإنّ أقرب مدن هذا الإقليم إلى مركز البركة هي مدن فلسطين، الممتدة على محور شمالي جنوبيٍ، شرقاً حتى ضفة النهر وغرباً حتى ساحل البحر.
وبالتالي فإنَّ ما نسمّيه “الضفة” جزء من القدس لا ينفصل عنها، بأي حيثية مهما كانت؛ فالكلُّ جسم واحد وشخصية متكاملة؛ ولذلك فشل الصهيوني في فصل أبناء الضفة عن القدس، وسقط مشروعه لصرف شبابها وأهلها عن التمحور حول القدس، ورؤية أنفسهم في مرآتها، والبحث عن مقومات شخصيتهم فيها.
ابنُ الضفة مقدسي صميم، يحمل هويتها الحضارية والنفسية، ويفكر بعقلها، ويرى امتداده في التاريخ الماضي والمستقبل الآتي من خلالها.
ولئن خطط الصهيوني وبذل أقصى الجهد من أجل إضفاء الطابع الإسرائيلي على أبناء الضفة، وعزلهم عن محور القدس، فقد باءت كل جهوده بالخسران، وذهبت كما يذهب السراب.
وقد حفل العام الممتد من رمضان الماضي حتى يومنا بالكثير الكثير من المواقف الحاسمة، التي أدَّى فيها أبناء الضفة وشبابها دوراً لا بديل عنه في حماية القدس الشريف والذود عنها؛ وارتقى مئات الشبان شهداء على طريق تحريرها، وقد أحصت المؤسسات المختصة حوالي 180 شهيداً من مناطق الضفة خلال عام 2022 وحده، ولفتت إلى تدمير الاحتلال 833 مبنى فلسطينياً في الضفة خلال الفترة نفسها، عدا عن 6500 حالة اعتقال، لا زال 4700 منهم في المعتقلات والسجون الصهيونية.
بناء عليه كان اختيار شعار (الضفة دِرْعُ القدس) عنواناً لمناسبة يوم القدس العالمي لهذا العام؛ وإن كانت فلسطين كلُّها درعاً للقدس وسيفاً لها؛ لكن تخصيص الضفة بهذا الاسم، وهي جزءٌ مِن كُلٍّ متماسك، يعني أولاً توجيه رسالة شكر وتقدير لأبناء الضفة على تضحياتهم الجليلة.
كما يعني لفت أنظار العالم إلى حجم الجرائم الشنيعة التي يرتكبها الصهيوني بحقّ أهلنا في الضفة.
(الضفة دِرْعُ القدس) يوجّه أيضاً رسالة إلى العدو الأثيم، أن وحدة هذا الشعب وتماسكه أمرٌ لا يمكن التفريط به، ولن تجدي نفعاً كل مشاريعك للتفرقة والتقسيم، وسوف نحافظ على القدس ونحررها من رجس احتلالك، فإنّ غزة درعٌ للقدس، والجليل درعٌ للقدس، والنقب درعٌ للقدس، والضفة دِرْعُ القدس.
بقلم الشيخ محمد أديب ياسرجي
أمين سر الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين