جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة
بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
خمس وقفات أمام جريمة الاغتيال البشعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني بحق الإعلامية المتميزة القديرة شيرين أبو عاقلة:
الوقفة الأولى: أن هذه الجريمة يجب ألا تمر دون عقاب. ويجب أن تنصبّ الجهود على كشف غدر الاحتلال وخسّته، وخوفه من كشف الحقائق ومن فضح الجرائم التي يمارسها يومياً على الأرض.
لقد “قاتلت” شيرين على مدى خمسة وعشرين عاماً في جبهة تشكيل الوعي وإبراز معاناة أهلنا وشعبنا؛ وخاضت المخاطر، وعاشت في “الميدان”، وهي تدافع عن فلسطين والقدس؛ وقُتلت برصاص عدو غادر، ودفعت ثمن رسالة عظيمة حملتها بأمانة واقتدار، وبمهنية عالية. ولذلك، حُقَّ لكل حرّ وعزيز وذي وفاء أن يغضب ويحزن لجريمة قتلها.
كالعادة، سيسعى الاحتلال للتملص من الجريمة، كما فعل في الكثير من جرائمه السابقة، وسيسعى لتبهيت وتضييع الموضوع.. ولكن العديد من الأدلة هذه المرة تحشره في الزاوية التي لا يجب أن يخرج منها. فلم تكن في مكان فيه حالة مواجهة مسلحة مع الشبان الفلسطينيين، والرصاص الذي أصابها هو رصاص قناص محترف، أصاب المنطقة تحت الأذن أي تحت خوذة الرأس وفوق السترة الصحفية التي ترتديها. والاحتلال الإسرائيلي اعترف في البداية بتحييد اثنين من المقاومين، غير أنه عندما انكشف أمره باغتياله لشيرين وإصابة زميلها السمودي عاد لإنكار جريمته.
ثمة فرصة لتصعيد الأمر ومتابعته، خصوصاً أن شيرين تحمل الجنسية الأمريكية، وأن هناك متابعة عالمية وإدانة دولية للجريمة. كما يجب متابعة الضغط على السلطة الفلسطينية لتحويل الجريمة إلى محكمة الجنايات الدولية، وألا يكون سلوكها الحالي سلوكاً مؤقتاً مرتبطاً بامتصاص الحزن والغضب الجماهيري والعالمي.
الوقفة الثانية: هي حول ذلك المشهد المؤسف الذي شهدناه من انشغال وسائل التواصل الاجتماعي واحتدام النقاشات حول جواز الاستغفار والترحم على شيرين.
إن نقطة النقاش الجوهرية هي جريمة الاغتيال التي ارتكبها الاحتلال وبشاعتها، وفضحه وكشفه وتجريمه على كافة المستويات. وكذلك الدور الإعلامي المتميز ومعركة الوعي التي خاضتها شيرين وماتت لأجلها.
إن جُلُّ النقاش والتركيز يجب أن ينصبّ على هذه المسألة، وما عداها فهو أمرٌ فرعي خصوصاً في هذا التوقيت. وإن استهلاك طاقات الناس وأوقاتهم وجهودهم وتضييع الموضوع الجوهري والأساس، هو تضييع للبوصلة، وغياب لفقه الأولويات، كما يعكس فشلنا في إدارة معاركنا والتحديات التي تواجهنا؛ وكذلك فشلنا في إدارة الفرص والتعامل معها. وإن أحد أبرز أسباب تخلفنا وضعفنا تقديمُ التناقض الفرعي على التناقض الأساسي، والضّياع في الشكليات والفرعيات، والاستغراق في تفاصيل في غير وقتها.
ربما ناقش البعض مسألة التّرحم والاستغفار بحسن نية من باب العلم بالشيء، وهذا قد نعذره، إن كان تعامل مع المسألة في إطارها المحدود، وإن كنا لا نوافقه في التوقيت ولا في إشغال الناس بهذا الأمر، والتسبب في صرفهم عما هو أهم. غير أن هناك متنطّعين سعوا إلى إشغال العالم بهذه الجزئية وكأنها معركتهم الكبرى. كما أننا لا نستبعد وجود أطراف “غير بريئة” هاجمت من ترحم عليها، كما هاجمت من لم يترحم عليها، وحاولت جرّ الناس إلى سجالات ومعارك جانبية، لتصرف الناس عن الجريمة وبشاعتها؛ ولتتسبَّب في إسعاد الاحتلال الذي وجد أن السهام لم تعد تُصوّب نحوه.
ولذلك، فلستُ مع المتفذلكين من “المتدينين” الذين تركوا جوهر القضية وحرفوا البوصلة، وشغلوا العالم بالفرع على حساب الأساس. ولستُ كذلك مع المتفذلكين من “العلمانيين” الذين لا يأبهون في حياتهم وسلوكهم بالدين، ولا يقيمون للشريعة والإسلام وزناً، ويرفضون تطبيقه في دنيا الناس؛ ثم تجدهم عندما تحدث الوفاة ويتعلَّق الأمر بالآخرة يسارعون في تقمُّصِ أدوار “المفتين”، ويستأثرون بتوزيع ألقاب الشهادة ومصائر الناس ومفاتيح الجنة على هواهم!!
ولذلك، فالمطلوب مراعاة المشاعر، واستيعاب المجموع الوطني، والبحث عن المشترك، وتجنُّب أي استفزاز متبادل.
الوقفة الثالثة: أن ثمة أزمة أخلاق وقلة أدب وانعدام ذوق، تعكس جهلاً بالإسلام نفسه وسماحته لدى البعض، ممن أصرّ على ترك كل أجواء الجريمة والحالة الحزينة والألم الذي يعتصر عائلة شيرين والشعب الفلسطيني والمتعاطفين في العالم، ليركز فقط على جزئية الترحم والاستغفار.
وكان يسعهم أن يؤجلوا الأمر أو يضعوه في إطاره، وأن يتأسوا بسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقف عندما مرّت جنازة يهودي. فالسلوك الإنساني وتقدير لحظة الموت، ومراعاة مشاعر الآخرين هو الأصل؛ فكيف لا نقدّر من خاض معركة الوعي وكشَف جرائم الاحتلال، وخاض المخاطر دفاعاً عن فلسطين. إن مقتضى الشهامة والمروءة والوفاء يدعو “للوقوف”، وللتقدير الكبير والتضحيات التي قدمتها شيرين.
مقتضى الوفاء هذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، فعندما سأله عمُّه العباس عما فعله لعمه أبي طالب، أخبره عما بذله من ترحّم ودعاء، وما أدى ذلك إلى تخفيف عنه، وقال له: “ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار”.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحفظ الجميل، ويُنزل الناس منازلهم، ويعطيهم قدرهم الذي يستحقونه، وكان يقول: “من لم يشكر الناس لم يشكر الله”. وقد حفظ عليه السلام للمُطعِم بن عدي، وكان من قادة مشركي قريش، أنه سعى لنقض الصحيفة التي علقتها قريش في الكعبة لمقاطعة بني هاشم، وأنه عليه السلام دخل في جوار المُطعم (أي حمايته) بعد وفاة عمه أبي طالب. ولذلك ذكر عليه السلام أن المُطعم بن عدي لو كلمه في إطلاق سراح جميع أسرى معركة بدر، وكانوا سبعين أسيراً، لأطلق سراحهم بغير فداء (دونما أثمان) إكراماً له. وقد كان موقفه هذا سبباً في إسلام ابنه الجبير رضي الله عنه.
وحتى حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم ينسَ للمُطعِم بن عدي فضله بالرغم من موته على الشرك، فقال:
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيِّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي
بِدَمْعٍ وَإِنْ أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدَّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدَّهْرَ وَاحِداً
مِنْ النَّاسِ، أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا
فَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُم
عَلَى مِثْلِهِ، فِيهِمْ أَعَزَّ وَأَعْظَمَا
وقد قرأت رأياً معتبراً أن الأدب والذوق مع قلة العلم خير من كثرة العلم مع قلة الأدب والذوق، فكيف إذا اجتمعت (من البعض) قلة الذوق مع قلة العلم.
الوقفة الرابعة: أن الكثيرين ممن خاضوا باندفاع وحماس معركة التّرحم والاستغفار، وشغلوا الناس عن جوهر القضية، وتحدثوا بقوة عن ضرورة قول الحق وألا تأخذنا فيه لومة لائم، يصمتون صمت القبور عما هو أعظم بكثير. إذ إننا لا نراهم في الميدان عندما يُحكم بغير ما أنزل الله سبحانه في بلدانهم، ولا نسمع لهم حسّاً ولا همساً عندما يُطبّع حكامهم العلاقات مع الكيان الصهيوني ويعترفون للصهاينة “بحقهم” في أرضنا المقدسة، ولا نسمع لهم صوتاً عندما تطارد أجهزة أمنهم المقاومين وتسجن العلماء والدعاة إلى الله. بل نرى منهم من يُصفق لأنظمة فاسدة مستبدة أو يبرر لها أو يسكت عنها؛ بينما يتتبع عورات المقاومين والقابضين على الجمر.
ولسنا نقصد أولئك الذين تحدثوا بحسن نية أو بياناً للعلم بطريقة لبقة، وإنما نقول لهم ولغيرهم أن يتبينوا مواضع أقدامهم ومرمى سهامهم، لأن ثمة شياطين خرسا وشياطين ناطقين لا يريدون خيراً بنا ولا بأمتنا.
الوقفة الخامسة: نؤكد على أن مسيحيي فلسطين تعرضوا إلى الظلم والقهر والتشريد نفسه الذي تعرّض له مسلمو فلسطين، وشاركوا في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقدموا نموذجاً للتماسك والوحدة الوطنية في وجه المشروع الصهيوني، وشاركوا في الدفاع عن عروبة فلسطين بالكلمة والقلم والبندقية والعرق والدم، وعبّروا عن انتمائهم الحضاري للمنطقة بهويتها ولغتها وتراثها، وهم جزء أصيل وعريق من هذا الشعب، وعلينا أن نحافظ على هذا النسيج وعلى هذه الوحدة، وأن نُعززها ونطورها.
وأخيراً فلسنا بصدد الخوض في فقه التّرحم والاستغفار، ولكننا ننبه إلى أن العلماء المحققين فرقوا بين المسألتين، وأن العديد أجازوا التّرحم. وهنا أرجع القراء الكرام مثلاً للدراسة القيمة التي نشرها د. معتز الخطيب في موقع الجزيرة. نت، وكذلك مقطعَي فيديو مهمَّين للدكتور عدنان هليل والأستاذ بسام جرار، منشورين على وسائل التواصل.
خالص التعازي والمواساة في الإعلامية الكبيرة شيرين لعائلتها ولفلسطين ولكل أحرار العالم.